الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية نُشر على أعمدة مجلة أخبار الجمهورية: هذا آخر ما كتبه الراحل صالح الزغيدي

نشر في  02 أفريل 2018  (13:54)

بقلم صالح الزغيدي

نشر بتاريخ 16 مارس 2018 على أعمدة مجلة أخبار الجمهورية

أصبحت اليوم مسألة تموقع اتحاد الشغل على الساحتين الاجتماعية والسياسية موضع جدل كبير، دائم ومتشعب، يشارك فيه نقابيون ويشارك فيه كذلك غير النقابيين من سياسيين وغيرهم.. من بين هؤلاء متعاطفون مع المنظمة النقابية ومع نضالاتها وتاريخها المجيد، ومن بينهم كذلك خصوم للمنظمة النقابية لم ينفكوا يحلمون بإضعافها...
إن الموضوع غاية في الأهمية والجدية نظرا للثقل الذي يمثله الاتحاد في الساحة الاجتماعية والسياسية في نفس الوقت، ونظرا لما تمر به البلاد من صعوبات وأزمات تجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.. لذلك سنتطرق لهذا الموضوع: موضوع العلاقة بين السياسي والنقابي في مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل انطلاقا من استئناسنا بالموضوع عبر تعرضناله في عديد الكتابات والندوات، وعبر تجربتنا الطويلة على مدى 30 سنة في العمل النقابي في صفوف الاتحاد وفي قياداته، والمشاركة النشيطة في أهم الأحداث التي عاشتها المنظمة ما بين 1970 و2000...
خلافا لما يعتقده العديدون فإن مسألة العلاقة بين النقابي والسياسي في مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل ليست جديدة ولا هي وليدة  السنوات او الأشهر القليلة الماضية...

منظمة ذات طابع سياسي؟

الكثير من خصوم الاتحاد، أو حتى من أصدقائه والمتعاطفين معه، ـ علاوة على عدد من النقابيين ـ يعيبون بشدة  ـ في المدة الأخيرة ـ على المنظمة وقياداتها «التسيس» المفرط إلى درجة أنّ بعض «المحللين» يتهمون المنظمة الشغيلة بالتحول إلى منظمة ذات طابع سياسي تريد ان تتحكم في مصير البلاد وخياراتها..
والجميع يعرف جيدا خلفيات بعض الأوساط المعروفة بعدائها التاريخي تجاه الحركة النقابية أو تلك المتشبثة بخيارات الليبرالية الاقتصادية المجحفة التي ما انفكت منذ عقود تحلم بـ«نقابة وديعة» مندمجة في السياسات والتوجهات الرأسمالية الليبرالية التي تجعل من العمل العنصر الأقل أهمية من كل العناصر الأخرى، مما يتطلب ـ إذا لزم الأمر ـ نقابة مساهمة بمعنى الإدماج الكامل ليس فقط في السياسات التى يطرحها رأس المال بل وكذلك في المشروع المجتمعي الرأسمالي الليبرالي..

منذ نشأة الحركة النقابية على يدي محمد علي...

لقد تأسست الحركة النقابية التونسية منذ نشأتها على أيدي محمد علي ورفاقه في ارتباط بالعنصر السياسي...
فلا ننسى النفس الاشتراكي والفكر التعاضدي واللذين كانا حاضرين في التجربة النقابية التونسية الأولى في بداية العشرينات... ولا ننسى مشاركة الشيوعيين في تلك التجربة ومساندتهم لنقابة محمد علي، وكانوا التيار السياسي الوحيد المساند لها في حين عارضتها القوى السياسية الأخرى، بما في ذلك الحزب الدستوري.. وكانت التهمة الرئيسية الموجهة لنقابة محمد علي هي التسيس..وعلى عكس ذلك، يمكن القول انه من بين أسباب سقوط تجربة القناوي في الثلاثينيات وفشلها ـ اضافة الى نزعة الهيمنة لدى القيادة الجديدة للحزب الحر الدستوري التونسي بزعامة الحبيب بورقيبة ـ عدم وعي القناوي بعدم إمكانية نجاح نقابة مهنية حرفية بحتة في ظل هيمنة استعمارية كاملة تجعل من الخيار الوطني عنصرا حاضرا بالضرورة في كل عمل، حتى ولو كان عملا اجتماعيا بالأساس مثل العمل النقابي...

هذا ما فهمه فرحات حشاد...

وهذا بالضبط ما فهمه فرحات حشاد ورفاقه في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهم المناضلون منذ سنوات في صفوف الس.ج. ت الفرنسية.. تأكد حشاد أن القضية الوطنية لا يمكن أن تكون غائبة عن مشاغل نقابة تونسية ومهامها... فتأسس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946 كمنظمة نقابية مهنية ووطنية في نفس الوقت، وجعله هذا الخيار الضروري والتاريخي يتحمل عبئا كبيرا من حركة التحرر الوطني... ولا يخفى على أحد أن خيار المساهمة الفعلية والعملية في معركة التحرر الوطني، معركة الاستقلال عن فرنسا المستعمرة، هذا الخيار خيار سياسي بامتياز... فالاندماج في المعركة  المواجهة  لفرنسا الاستعمارية ومعاداتها، والإدارة الاستعمارية والمستعمرين الفرنسيين الذين يملكون الثروة في البلاد بما في ذلك الجزء الهام من الأراضي، هذا الاندماج في هكذا معركة هو اندماج الاتحاد في عمل سياسي لا علاقة  مباشرة له مع العمل النقابي الكلاسيكي... هذا التوجه وهذا الخيار الذي انطلق مع التأسيس بل انطلق على أساسه ومن أجله، مواكبا مسيرة المنظمة الشغيلة طوال الواحدة والستين سنة التي مضت منذ التأسيس، في مختلف المراحل التي مر بها الاتحاد، حتى وان كان ذلك بأشكال مختلفة...

مدّ وجزر...

ولا بدّ من التذكير بأن العلاقة بين اتحاد الشغل وسلطة الاستقلال الى حدّ جانفي 2011 تميزت بالمد والجزر، ما بين انصهار المنظمة الشغيلة في نظام الحزب الواحد وسياسات الدولة انصهارا كاملا إلى درجة تحمل مسؤولين في الاتحاد لمسؤوليات قيادية في هياكل الحزب الحاكم وفي الحكومة وفي البرلمان وغيرها من هياكل الدولة، وما بين مواجهات بلغت فيها الخلافات أحيانا درجة كبيرة من القطيعة، مثل  ما سجل في أحداث 26 جانفي 1978 الدامية، أو قبلها سنة 1956 وسنة 1966، أو بعدها سنة 1985...
ومن مفارقات ثقافة نظام الحزب الواحد  وفكره ومن متناقضاته أن السلطة تتصرف بصفة غريبة تجاه اتحاد الشغل.. فهي تقبل وتعمل دوما  على أن يندمج الاتحاد في نظامها السياسي وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، يعني أن يتموقع  سياسيا معها والى جانبها  ويكون في خدمتها سياسيا، وبمجرد أن يحاول الاتحاد أن يخرج ولو قليلا عن هيمنة السلطة ساعيا إلى اكتساب قسط من الاستقلالية عن السلطة وعن الحزب الحاكم ، تنطلق أبواق السلطة والحزب الحاكم وأدواتها في حملة ضد الاتحاد متهمة إياه بالانحراف نحو التسيس و العمل السياسي الذي لا يتوافق مع العمل النقابي.. وهذا ما يعني ان  «التسيس « إذا كان مع السلطة ولفائدتها، فهو نعم التسيس، وإذا خرج ـ ولو قليلا ـ عن سياسات الدولة ، فهي آفة التسيس وبامتياز لأن هذا «الخروج» أو «التمرد» من شأنه  تقويض نظام الحزب الواحد كنظام سياسي متماسك حول الثنائي المندمج الدولة / الحزب.

معركة الاستقلالية...

في حقيقة الأمر، احتلت قضية استقلالية الاتحاد موقعا مركزيا خلال تاريخه الطويل وخاصة في الأربعين سنة الأخيرة، أي منذ أواسط سنة 1975... كانت معركة شاقة، متشعبة، ساهمت إلى درجة كبيرة في تطور نظام حزب الدستور وانخرامه التدريجي حتى سقوط بن علي في جانفي 2011... معركة الاستقلالية كانت بطبيعة الحال معركة سياسية بامتياز وهاهي تعود اليوم في ظروف جديدة بعد الذي شهدته البلاد من تطورات نتجت عن التغيير الذي حصل في 14 جانفي 2011...
في هذه الظروف المتغيرة والتي يمكن القول إنّ أهم  ما يميزها في الجوهر، هو أولا سقوط نظام الحزب الواحد الذي عاشت في ظله البلاد لفترة طويلة جدا دامت قرابة النصف قرن، وثانيا صعود الإسلام السياسي للحكم  عبر انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبقاؤهم في السلطة حتى اليوم... السنوات السبع التي مرت تميزت بأوضاع اقتصادية متدهورة ووضع اجتماعي متوتر أقرب منه إلى الفوضى، وتقلص كبير لهيبة الدولة واستهتار بالقانون، وبروز ظاهرة الاغتيال السياسي وتجاذبات سياسية متزايدة خلقت مناخا غير سليم وتقلبات غريبة وتحالفات غير عادية ، واستفحال الفساد والرشوة، إضافة إلى بروز الظاهرة الإرهابية وتطوّرها... في هذا المناخ الاجتماعي والسياسي والأمني تطرح اليوم، ومن جديد،  وبكل حماس مسألة تموقع اتحاد الشغل بالنسبة إلى الحياة السياسية وبالنسبة للسلطة الحاكمة...
في عالم آخر غير تونس...

لا بد من التأكيد في البداية على أن من يعتقدون في إمكانية  حصر المنظمة النقابية  في دورها النقابي الحرفي البحت يعيشون في عالم آخر غير تونس.. اتحاد الشغل لم يخلق كمنظمة نقابية حرفية لا علاقة لها بالشأن السياسي بتاتا...كان فرحات حشاد يقول: إذا أنت كنقابي هربت من السياسة، فالسياسة ستلتحق بك أينما كنت... فكل الأجيال النقابية تربت على أن اتحاد الشغل معنيّ بالضرورة بالشأن العام والشأن السياسي بالخصوص.. لم يعد هناك في تونس، لا داخل الأوساط النقابية ولا خارجها، من يعتقد  غير ذلك...
الإشكال إذن ليس في أن يقول الاتحاد كلمته في عدد من الاختيارات الكبرى  مثل التشغيل أو السياسة التربوية أو السياسة الاجتماعية أو قضايا التغطية الاجتماعية أو غيرها... كل هذا أصبح من المفروغ منه، وكل جدل حوله لا يغدو أن يكون إلا مضيعة للوقت...

مسألة التموقع
السياسي لاتّحاد الشغل...

إن الجواب عن السؤال الصحيح حول تموقع اتحاد الشغل، خاصة تجاه السلطة الحاكمة، لا ينبغي أن نبحث عنه بعيدا، إذ هو متوفر في تاريخ الاتحاد المليء بالأحداث ، تلك الأحداث التي تمحورت غالبا حول  المسألة نفسها  التي يثار الجدل حولها اليوم، وهي مسألة التموقع السياسي لاتحاد الشغل... العودة الى معركة استقلالية الاتحاد، في الفترة التي تبعت أحداث 26 جانفي 1978 والقطيعة بين المنظمة النقابية وسلطة نظام الحزب الواحد، تعيدنا الى النقاشات العميقة والطويلة التي خاضها النقابيون لتوضيح المصطلح الجديد وتثبيته، مصطلح «استقلالية الاتحاد»... وقد تعددت المقاربات وتنوعت القراءات  لأن كل النقابيين كانوا واعين أن الاستقلالية لا يمكن ان تعني  ابتعاد الاتحاد عن الحياة السياسية وان القطيعة مع هيمنة السلطة والحزب الحاكم تعني تخلي الاتحاد عن دوره الوطني والتزامه بمصلحة البلاد وتمسكه بالخيارات التقدمية وبالمكاسب التي حققتها البلاد...
تأسيس حزب عمالي

لقد وصل النقاش والجدل لدى بعض المناضلين النقابيين الى تصور الاتحاد كمبادر لتأسيس حزب عمالي تكون المنظمة الشغيلة سندا اجتماعيا وطبقيا له ويكون هو تعبيرتها السياسية، متأثرين بمنوال حزب العمال البريطاني، وقد عرضت الفكرة على المجلس الوطني سنة 1985 فرفضها على أساس أنها تجعل الاتحاد في خدمة حزب سياسي وهو مرفوض من قبل النقابيين حتى لو كان الحزب حزبا عماليا.. وللتاريخ، كان النشطاء النقابيون اليساريون في طليعة الرافضين لهذا المشروع...
ما وصلت إليه النقاشات وحسمته كان من منطلق التمييز بين السياسي والسلطوي... معنى ذلك ان الاتحاد من الطبيعي ان يواكب السياسات والتوجهات التي تتبعها السلطة الحاكمة ـ مهما كانت السلطة ـ وخاصة تلك التي لها اثر مباشر على العمال وعلى الطبقة الشغيلة عموما وأن يدلي برأيه فيها سواء مباشرة أو داخل المؤسسات الدستورية الموجودة فيها مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو بعض مجالس الإدارة لعدد من المؤسسات العمومية... من هنا تمّ بعث قسم الدراسات وتعزيزه كهيكل قار وهام من هياكل الاتحاد كانت العديد من الخبرات الاقتصادية والاجتماعية والمالية تشارك في أنشطته...
ميدان السياسة إذن غير مغلق في وجه الاتحاد بالمعنى الذي وضحناه... أما قضية السلطة،أي مسألة الحكم فهي قضية لا تعني الاتحاد في شيء... هناك هياكل الدولة من حكومة وبرلمان ومؤسسات دستورية وأحزاب سياسية... هذا الجانب «السلطوي» من السياسة والعمل السياسي الاتحاد لا ناقة له فيه ولا جمل.

القاعدة الثمينة...

الاتحاد ليس معنيّا بمن ينبغي أن يحكم البلاد ومن «يتوزر» ومن يقال من منصبه في الحكومة... اختار النقابيون هذا الخيار في وقت لم تكن في البلاد حياة ديمقراطية ولا انتخابات نزيهة ولا أحزاب فاعلة ولا إعلام حر ومتنوع... كان الاتحاد شريكا في السلطة الحاكمة وكان له وزراء فيها في فترة معينة، ولكن النقابيين بعدما فرضوا، عبر تضحيات جسام، استقلالية المنظمة الشغيلة وقطعوا مع الهيمنة، اعتبروا أن صيانة تلك الاستقلالية، إضافة إلى ضرورة احترام الهوية والخصوصية النقابية، تفرض عليهم اعتماد قاعدة لا ينبغي ان يحيدوا عنها في تموقع المنظمة من  السلطة الحاكمة مهما كانت الظروف:
«ليس مطروحا على الاتحاد أن يتموقع كحليف سياسي للسلطة الحاكمة  وليس مطروحا على الاتحاد أن  يتموقع كخصم سياسي للسلطة الحاكمة»...
هذه القاعدة الثمينة هي وحدها التي تصون استقلالية المنظمة الشغيلة، وبدونها تصبح المنظمة أمّا في خدمة السلطة وأحزابها وإما في خدمة المعارضة السياسية وأحزابها...
وهذه القاعدة الثمينة هي وحدها التي تصون وحدة النقابيين وبدونها يتفرقون ما بين مؤيدين للسلطة الحاكمة ومعارضين لها...

لعب بالنار وهذيان...

هل من الممكن، والأمور بهذا الوضوح، أن نتمنى ان يعي كافة النقابيين والقياديين منهم بالخصوص بضرورة وضع حد لبعض المهاترات في هذا الموضوع: موضوع تموقع الاتحاد من السلطة الحاكمة... ألا يفقه البعض أن المشاركة في وضع أرضية لحكومة ما وفي تركيبتها مع تخصيص وزارتين لنقابيين اثنين ـ مهما كانت الحكومة وتركيبتها ومهما كانت الأرضية، إن صيغت في قرطاج أو في مكان آخر ـ إنما يشكل رهانا خطيرا وخرقا سافرا لاستقلالية الاتحاد ولوحدة الصف النقابي؟ ألا يفقه البعض من القياديين «المثقفين» في اتحاد الشغل أنهم يلعبون بالنار عندما يحولون الاتحاد إلى «متصرف في شؤون الحكومة « بأن يقترحوا إقالة هذا الوزير  أو ذلك، أو أن يضعوا قائمة لكل من الوزراء «الفاشلين» والذين ينبغي على رئيس الحكومة إقالتهم وتعويضهم، مضيفين أنه في حالة عدم استجابة رئيس الحكومة لهذا «الديكتات»، فانه لن يبقى غير إقالة رئيس الحكومة نفسه... ما هذا الهذيان؟ ما هذا الخروج عن المنطق وعن الثوابت النقابية التي بناها الاتحاد ومناضلوه ومناضلاته عبر الكفاح المرّ وعبر التضحيات؟
من سيوقف هذا التيار الخطير؟ من سيوقف هذه الممارسات الـ«يعقوبية» الغريبة عن المنطق والمفاهيم النقابية  والتي تهدد بتصاعد الغضب ضد الاتحاد وتهدد إذا تواصلت وتعممت بتفكك في صفوف منظمتنا العتيدة؟